كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ويجوز أن يكون الفعلان متروكي المفعول كأنه قيل: أنا سامع مبصر وإذا كان الحافظ والناصر كذلك تم الحفظ وكملت النصرة. قال بعض الأصوليين: في الآية دلالة على أن الأمر لا يقتضي الفور وإلا كان تعللهما بالخوف معصية وإنها غير جائزة على الرسل في الأصح. وقال بعض المتكلمين: فيها دليل على أن السمع والبصر صفتان زائدتان عن العلم والإلزام التكرار فإن معيته هي بالعلم ولقائل أن يقول: الخاص يغاير العام ولكن لا يباينه.
ثم كرر الأمر قائلًا: {فأتياه فقولا} فسئل إنهما أمرا بأن يقولا له قولًا لينًا فكيف غلظاه أوّلًا بقوله: {إنا رسولا ربك} ففيه إيجاب انقياده لهما وإكراهه على طاعتهما وهذا مما يعظم على الجبار. وثانيًا بقوله: {فأرسل معنا بني إسرائيل} وفيه إدخل النقص في ملكه لأنه كان يستخدمهم في الأعمال الشاقة. وثالثًا بقوله: {ولا تعذبهم} وفيه منعه عما يريده بهم؟ وأجيب بأن هذا القدر من التغليظ ضروري في أداء الرسالة. قيل: أليس الأولى أن يقولا {إنا رسولا ربك} {قد جئناك بآية من ربك فأرسل معنا بني إسرائيل} فيكون ذكر المعجز مقرونًا بادعاء الرسالة. والجواب أن قوله: {فأرسل} من تتمة الدعوى، وإنما وحد قوله: {بآية} ومعه آيتان بل آيات لقوله: {اذهب أنت وأخوك بآياتي} لأنه أراد الجنس كأنه قيل: قد جئناك ببيان من عند الله وبرهان. قال في الكشاف: قلت: وفيه أيضًا نوع من الأدب كما لو قلت: أنا رجل قد حصلت شيئًا من العلم ولعل عندك علومًا جمة على أن تخصيص عدد بالذكر لا يدل على نفي الزائد عليه. وأيضًا الأصل في معجزات موسى كان هي العصا ولهذا وقعت في معرض المعارضة كما أن الأصل في معجزات نبينا صلى الله عليه وسلم كان هو القرآن فوقع لذلك في حيز التحدي {والسلام} أي جنس السلامة أو سلام خزنة الجنة {على من اتبع الهدى} يحتمل أن يكون هذا أيضًا مما أمر بأن يقولاه لفرعون، ويحتمل أن تكون الرسالة قد تمت عند قوله: {بآية من ربك} ويكون هذا وعدًا بالسلامة من عقوبات الدارين لمن آمن وصدق. قالت الأشاعرة: في قوله: {أن العذاب} أي جنسه أو كل فرد منه {على من كذب وتولى} دليل على أنه لا يعاقب أحدًا من المؤمنين ترك العمل به في بعض الأوقات، فوجب أن يبقى على أصله في نفي الدوام على أن العقاب المتناهي لا نسبة له إلى النعيم المقيم الذي لا نهاية له فكأنه لم يعاقب أصلًا.
وأيضًا العارف بالله قد اتبع الهدى فوجب أن يكون من أهل السلامة {قال فمن ربكما يا موسى} خاطب الاثنين ووجه النداء إلى موسى لأنه الأصل في ادعاء الرسالة وهارون وزيره، ويجوز أنه خص موسى عليه السلام بالنداء لما عرف من فصاحة هارون والرتة التي كانت في لسان موسى. فأراد أن يعجز عن الجواب. قال أهل الأدب: إن فرعون كان شديد البطش جبارًا ومع ذلك لم يبدأ بالسفاهة والشغب بل شرع في المناظرة وطلب الحجة، فدل على أن الشغب من غير حجة شيء ما كان يرتضيه فرعون مع كمال جهله وكفره فكيف يليق ذلك بمن يدعي الإسلام والعلم؟! وفي اشتغال موسى بإقامة الدلالة على المطلوب دليل على فساد التقليد وفساد قول القائل بأن معرفة الله تستفاد من قول الرسول، وفيه جواز حكاية كلام المبطل مقرونًا بالجواب لئلا يبقى الشك. وفيه أن المحق يجب عليه استماع شبهة المبطل حتى يمكنه الاشتغال بحلها. واعلم أن العلماء اختلفوا في كفر فرعون فقيل: كان عارفًا بالله إلا أنه كان معاندًا بدليل قوله: {لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السموات والأرض} [الأسراء: 102] وقوله: {وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلمًا وعلوا} [النمل: 14] وقوله في سورة القصص {وظنوا أنهم إلينا لا يرجعون} [الآية: 39] وليس فيه إلا إنكار المعاد دون إنكار المبدأ. وقوله في الشعراء {وما رب العالمين} [الشعراء: 23] إلى قوله: {إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون} [الشعراء: 27] يعني أنا أطلب منه الماهية وهو يشرح الوجود فدل على أنه اعترف بأصل الوجود.
وأيضًا إن ملك فرعون لم يتجاوز القبط ولم يبلغ الشام لأن موسى لما هرب إلى مدين قال له شعيب {لا تخف نجوت من القوم الظالمين} [القصص: 25] فكيف يعتقد مثل هذا الشخص إنه إله العالم بل كل عاقل مكلف يعلم بالضرورة أنه وجد بعد العدم فلا يكون واجب الوجود. وأيضًا إنه سأل هاهنا بمن طالبا للكيفية، وفي الشعراء بما طالبا للماهية فكأن موسى لما أقام الدلالة على الوجود ترك المناظرة والمنازعة معه في هذا المقام لظهوره وشرع في مقام أصعب لأن العلم بماهية الله تعالى غير حاصل للبشر. وأيضًا إنه قال في الجواب {ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه} وصلة الذي لابد أن تكون جملة معلومة الانتساب. ومن الناس من قال: إنه كان جاهلًا بالله بعد اتفاقهم على أن العاقل لا يجوز أن يعتقد في نفسه أنه خالق السموات والأرض وما فيهما. فمنهم من قول: إنه كان دهريًا نافيًا للمؤثر أصلًا. ومنهم من قال: إنه فلسفي قائل بالعلة الموجبة أو هو من عبدة الكواكب، أو من الحلولية والمجسمة. وأم إدعاء الالهية والربوبية فبمعنى أنه يجب عليهم طاعته والانقياد لحكمه. قال بعض العلماء: إنما قال: {فمن ربكما} [طه: 49] ولم يقل فمن إلهكما تعريضًا بأنه رب موسى كما قال: {ألم نربك فينا وليدًا} [الشعراء: 18] قلت: يحتمل أن يكون تخصيص موسى بالنداء تنبيهًا على هذا المعنى. ولم يعلم الكافر أن الربوبية التي ادّعاها موسى لله في قوله: {إنا رسولا ربك} غير هذه في الحقيقة ولا مشاركة بينهما إلا في اللفظ، وهذا كما عارض نمرود إبراهيم صلوات الرحمن عليه في قوله: {أنا أحيي وأميت} [البقرة: 258] ولم يعلم أن إحياءه وإماتته ليسا من الإحياء والإماتة في شيء ثم شرع موسى في الدلالة على إثبات الصانع بأحوال المخلوقات، وفيه دلالة على أن موسى كان أصلًا في النبوة وأن هارون راعى الأدب فلم يشتغل بالجواب قبله لأن الأصل في النبوة هو موسى، ولأن فرعون خصص موسى بالنداء. من قرأ {خلقه} بسكون اللام فإما بمعنى الخليقة والضمير المجرور لله وقدم المفعول الثاني ليتصل قوله: {ثم اهتدى} والخليقة أعطى الخلائق ما به قوامهم من المطعوم والمشروب والملبوس والمنكوح، ثم هداهم إلى كيفية الانتفاع بها فيستخرجون الحديد من الجبال واللآلىء من البار ويركبون الأغذية والأدوية والأسلحة والأمتعة ونظير هذا الكلام قوله: {الذي خلق فسوّى والذي قدر فهدى} [الأعلى: 2، 3] وقوله حكاية عن إبراهيم {الذي خلقني فهو يهدين} [الشعراء: 78] وإما أن يكون الخلق بمعنى الصورة والشكل أي أعطى كل شيء صورته وشكله الذي يطابق المنفعة المنوطة به فأعطى العين هيئتها التي تطابق الإبصار، والأذن ما يوافق الاستماع، والأنف للشم، واليد للبطش، بل أعطى رجل الآدمي شكلًا يوافق سعيه، ورجل الحيوانات الأخر شكلًا يطابق مشيها، بل أعطى ذوات القرون رجلًا توافق حاجتهن، وكذا الخف والحافر وذوات المخالب. وقيل: أراد وأعطى كل حيوان نظيره في الخلق والصورة فجعل الحصان والحجر زوجين، وكذا البعير والناقة والرجل والمرأة. ومن قرأ {خلقه} بفتح اللام صفة للمضاف أو المضاف إليه والمفعول الثاني متروك أي كل شيء خلقه الله لم يخله من عطائه وإنعامه.
واعلم أن عجائب حكمة الله تعالى في مخلوقاته بحر لا ساحل له، وقد دوّن العلماء طرفًا منها في كتب التشريح وخواص الأحجار والنبات والحيوان، ولنذكر هاهنا واحدًا منها هي أن الطبيعي يقول: الثقيل هابط والخفيف صاعد، فالماء لذلك فوق الأرض والهواء فوق الماء والنار فوق الكل. ثم إنه سبحانه جعل العظم والشعر أصلب الأعضاء على طبيعة الأرض وجعل مكانهما فوق البدن. وجعل تحته الدماغ الذي هو بمنزلة الماء وجعل تحته النفس الذي هو الهواء، وجعل تحته الحرارة الغريزية في القلب كالنار ليكون دليلًا على وجود الفاعل المختار خلاف ما يقوله الدهري والطبيعي وسائر الكفار. وأيضًا اختصاص كل جسم بقوة وتركيب وهداية إما أن يكون واجبًا أو جائزًا، والأول محال وإلا لم يقع فيها تغير. والثاني يستدعي مرجحًا فإن كان ذلك المرجح واجب الوجود لذاته فهو المطلوب، وإن كان جائز الوجود افتقر في اتصافه بالوجود إلى موجد، ولابد من الانتهاء إلى موجد يجب وجوده لذاته.
ثم إنه يستغني عن سمات النقص وشوائب الافتقار وليس إلا الله الواحد القهار.
قال أهل النظم: إن موسى عليه السلام لما قرر عليه أمر المبدأ {قال} فرعون إن كان وجود الواجب في هذه الحد من الظهور {فما بال القرون الأولى} لم يؤمنوا وجحدوا فعارض الحجة بالتقليد والبال الحال؟ أو أنه لما هدده بالعذاب في قوله: {أن العذاب على من كذب وتولى} قال فما بالهم كذبوا فما عذبوا؟ فأجاب بأن هذا ما استأثر الله بعلمه وما أنا إلا عبد مثلك لا أعلم منه إلا ما يخبرني به علام الغيوب. أو أنه سأله عن أحوال القرون الخالية وعن شقاء من شقي منهم وسعادة من سعد ليصرف موسى عن المقصود ويشغله بالحكايات خوفًا من أن يميل قلوب ملته إلى حجته الباهرة ودلائله الظاهرة، فلم يلتفت موسى إلى حديثه بل {قال علمها عند ربي} ولا يتعلق غرضي بأحوالهم. ويجوز أن يكون الكلام قد انجر ضمنًا أو صريحًا إلى إحاطة الله سبحانه بكل شيء فنازعه الكافر قائلًا: ما بال سوالف القرون في تمادي كثرتهم وتباعد أطرافهم كيف أحاط بهم وبأجزائهم وجواهرهم؟ فأجاب بأن كل كائن محيط به علمه ولا يجوز عليه الخطأ والنسيان كما يجوز عليك أيها العبد الذليل والبشر الضئيل. وقوله: {علمها عند ربي} مع قوله: {في كتاب} لا يتنافيان، بل المراد أنه تعالى عالم بجميع المغيبات مطلع على الكليات والجزئيات من أحوال الموجودات والمعدومات، ومع ذلك فإن جميع الأحوال ثابتة في اللوح المحفوظ ثم كان لقائل أن يقول: لعلها أثبتت في اللوح لاحتمال الخطأ والنسيان فتدارك ذلك بقوله: {لا يضل ربي ولا ينسى} قال مجاهد: هما واحد المراد أنه لا يذهب عنه شيء ولا يخفى عليه. والأكثرون على الفرق فقال القفال: الأول إشارة إلى كونه عالمًا بالكل، والثاني إشارة إلى بقاء ذلك العلم أي لا يضل عن معرفة الأشياء، وما علم من ذلك لا ينساه ولا يتغير علمه، يقال: ضللت الشيء إذا أخطأته في مكانه فلم تهتد له. وقال مقاتل: لا يخطىء ذلك الكتاب ربي ولا ينسى ما فيه. وقال الحسن: لا يخطىء وقت البعث ولا ينساه. وقال أبو عمر: ولا يغيب عنه شيء ولا يغرب عنه شيء. وقال ابن جرير: لا يخطىء في التدبير فيعتقد غير الصواب صوابًا وإذا عرفه لا ينساه والوجوه متقاربة. والتحقيق ما قاله القفال. وعن ابن عباس: لا يترك من كفر حتى ينتقم منه ولا يترك من وحده حتى يجازيه.
ولما ذكر الدليل العام المتناول لجميع المخلوقات السمويات والأرضيات من الإنسان وسائر الحيوانات وأنواع النباتات والجمادات ذكر الدلائل الخاصة فقال: {الذي جعل لكم الأرض مهدا} أي كالمهد وهو ما يمهد للصبي.
قال أبو عبيدة: الذي أختاره مهاد لأنه اسم لما يمهد والمهد مصدر. وقال غيره: المهد اسم والمهاد جمع. وقال المفضل: هما مصدران {وسلك} أي حصل {لكم فيها سبلًا} ووسطها بين الجبال والأودية والبراري. يقال: سلكت الشيء في الشيء سلكًا بالفتح أي أدخلته فيه {فأخرجنا به} أي بواسطة إنزال الماء. ومن المتكلمين الأقدمين من أنكر تأثير الوسائط رأسًا و{أزواجًا} أي أصنافًا فأسميت بذلك لأنها مزدوجة مقترن بعضها ببعض. و{شتى} صفة للأزواج جمع شتيت كمريض ومرضى، أو صفة للنبات لا مصدر سمي به النابت كما سمي بالنبت فاستوى فيه الواحد والجمع يعني أنها مختلفة النفع والطبع والطعم واللون والرائحة والشكل. ثم هاهنا إضمار والتقدير وقلنا أو قائلين {كلوا وارعوا أنعامكم} وذلك أن بعضها يصلح للناس وبعضها يصلح للبهائم، وإباحة الأكل تتضمن إباحة سائر وجوه الانتفاع كقوله: {ولا تأكلوا أموالكم} [البقرة: 188] ومن نعم الله تعالى أن أرزاق العباد إنما تتحصل بعمل الأنعام وقد جعل الله علفها مما يفضل عن حاجتهم ولا يقدرون على أكله. قال الجوهري: النهية بالضم واحدة النهى وهي العقول لأنها تنهى عن القيبح. وجوز أبو علي الفارسي أن يكون مصدرًا كالهدى وخص أرباب العقول بذلك لأنهم هم المنتفعون بالنظر فيها والاستدلال بها على وجود صانعها. {ومنها خلقناكم} لأن آدم مخلوق من الأرض. أو لأن بني آدم خلقوا من النطفة ودم الطمث المتولدين من الأغذية المنتهية إلى العناصر الغالبة عليها الأرضية، أو لما ورد في الخبر أن الملك يأخذ من تربة المكان الذي يدفن فيه الآدمي فيذرّها على النطفة. {وفيها نعيدكم} لأن الجسد يصير ترابًا فيختلط بالأرض إلا من رفعه الله إلى السماء، وهو أيضًا يحتمل أن يعاد إليها بعد ذلك. {ومنها يخرجكم تارة أخرى} بالحشر والبعث، أو بأن نخرجكم ترابًا وطينًا ثم نحييكم بعد الإخراج، أو المراد الإحياء في القبر. وهاهنا بحث وهو أن يكون قوله: {الذي جعل لكم الأرض} إلى هاهنا من تتمة كلام موسى، أو هو ابتداء كلام من الله تعالى. وعلى الأول يمكن أو يوجه قوله: {فأخرجنا} بأن المراد فأخرجنا نحن معاشر عباده بذلك الماء بالحراثة والزرع {أزواجًا من نبات شتى} إلا أن قوله: {كلوا وارعوا} إلى قوله: {ومنها نخرجكم} لا يطابقه. وإن قيل: إن كلام موسى يتم عند قوله: {وأنزلنا من السماء ماء} لم يصلح قوله: {فأخرجنا} ابتداء كلام من الله لمكان فاء التعقيب، والصواب أن يتم كلام موسى عند قوله: {ولا ينسى} ثم إنه تعالى ابتداء فقال: {الذي} أي هو الذي جعل إلى آخره، وعلى هذا يكون قوله: {فأخرجنا} من قبيل الالتفات علمًا للكلام وإيذانًا بأنه مطاع تنقاد الأشياء المختلفة لأمره تخصيصًا بأن مثل هذا لا يدرك تحت قدرة أحد سواه.
والحاصل أنه تعالى عدد عليهم ما علق بالأرض من المنافع حيث جعلها لهم فراشًا يتقلبون عليها عند الإقامة. وسوّى لهم فيها مسالك يتقلبون بها في أسفارهم، وأنبت فيها أصناف النبات متاعًا لهم ولأنعامهم. ثم إن الأرض لهم كالأم التي منها انشئوا وهي التي تجمعهم وتضمهم إذا ماتوا. ثم يخرجون من الأجداث خروج الأجنة من الأرحام، ومن ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تمسحوا بالأرض» أي ارقدوا واسجدوا عليها من غير حائل، أو تيمموا بها فإنها بكم برة أي إنها لكم كالأم. ومنا خلقناكم وفيها معايشكم وهي بعد الموت كفاتكم.
قوله عز وعلا: {ولقد أريناه آياتنا} أي عرفناه صحتها. ثم إن كان التعريف يستلزم حصول المعرفة فيكون كفره كفر جحود وعناد كقوله: {وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم} [النمل: 14] وإلا كان كفر جهالة وضلالة. سؤال الجمع المضاف يفيد العموم ولاسيما إذا أكد بالكل، لكنه تعالى ما أراه جميع الآيات لأن من جملتها ما أظهرها على الأنبياء الأقدمين ولم يتفق لموسى مثلها. الجواب هذا التعريف الإضافي محذوّ به حذو التعريف العهدي لو قيل الآيات كلها وهي التي ذكرت في قوله: {ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات} [الإسراء: 101] ولو سلم العموم فالمراد أنه أراه الآيات الدالة على التوحيد في قوله: {ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه} وعلى النبوة بإظهار المعجزات القاهرة وعلى المعاد لأن تسليم القدرة على الإنشاء يستلزم تسليم القدرة على الإعادة بالطريق الأولى، أو أراد أنه أراه آياته المختصة به وعدد عليه سائر آيات الأنبياء وإخبار النبي الصادق جارٍ مجرى العيان، أو إراءة بعض الآيات كإراءة الكل كما أن تكذيب بعض الآيات يستلزم تكذيب الكل كما قال: {فكذب} أي الآيات كلها {وأبى} قول الحق. قال القاضي: الإباء الامتناع وإنه لا يوصف به إلا من يتمكن من الفعل والترك وإلا لم يتوجه الذم. وجواب الأشاعرة أنه لا يسأل عما يفعل. ثم إن فرعون خاف أن تميل قلوب ملته إلى قول موسى فذكر ما يوجب نفار القوم عنه مع القدح في نبوته لادعاء إمكان معارضته قائلًا {أجئتنا لتخرجنا} فإن الإخراج من الديار قرينة القتل بدليل قوله: {أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم} [النساء: 66] ثم طالب للمعارضة موعدًا فإن جعلته زمان الوعد بدليل قوله: {موعدكم يوم الزينة} بالرفع كان الضمير في {لا نخلفه} عائدًا إلى الوعد المعلوم من الموعد أو إلى زمان الوعد مجازًا. وانتصب {مكانًا} على أنه ظرف للوعد المقدر، وإن جعلته مكان الوعد ليكون قوله: {مكانًا} بدلًا منه فوجه عود الضمير في {لا نخلفه} مثل ما قلنا، ويكون قوله: {موعدكم يوم الزينة} مطابقًا له معنى، لأنه لابد لهم من أن يجتمعوا يوم الزينة في مكان مشتهر عندهم وكأنه قيل: موعدكم مكان الاجتماع في يوم الزينة.
وإن جعلته مصدرًا ليصح وصفه بعدم الإخلاف من غير ارتكاب إضمار، أو تجوّز انتصب {مكانًا} على أنه ظرف.
ثم من قرأ {يوم الزينة} بالنصب فظاهر أي وعدكم أو انجاز وعدكم في يوم الزينة، أو وقت وعدكم في يوم الزينة. وفي يوم {يحشر الناس} هو ضحى أي ضحى ذلك اليوم. ومن قرأ بالرفع فيقدر مضاف محذوف أي وعدكم وعد يوم الزينة ومعنى {سوى} بالكسر والضم عدلًا ووسطًا بين الفريقين. وهو معنى قول مجاهد. فوصف المكان بالاستواء باعتبار المسافة. وقال ابن زيد: أي مستويًا لا يحجب شيئًا بارتفاعه وانخفاضه ليسهل على كل الحاضرين ما يجري بين الفريقين. وقال الكلبي: {مكانًا سوى} هذا المكان الذي نحن فيه الآن. قال القاضي: الأظهر أن قوله: {موعدكم يوم الزينة} من قول فرعون لأنه الطالب للاجتماع. وقال الإمام فخر الدين الرازي: الأقرب أنه من كلام موسى ليكون الكلام مبنيًا على السؤال والجواب، ولأن تعيين يوم الزينة يقتضي إطلاع الكل على ما سيقع وهذا إنما يليق بالمحق الواثق بالغلبة لا بالمبطل المزور، على أن موعدكم خطاب الجمع وليس هناك إلا موسى وهارون، فإما أن يرتكب أن أقل الجمع اثنان وهو مذهب مرجوح، وإما أن يقال الجمع للتعظيم ولم يكن فرعون ليعظمهما، ويوم الزينة يوم عيد لهم يتزينون فيه. وعن مقاتل يوم النيروز، وعن سعيد بن جبير يوم سوق لهم. وعن ابن عباس: هو يوم عاشوراء. وإنما قال: {وأن يحشر} من غير تسمية الفاعل لأنهم يجتمعون ذلك اليوم بأنفسهم من غير حشر لهم. ومحل {أن يحشر} رفع أو جر عطفًا على اليوم أو الزينة عين اليوم. ثم الساعة وهي {ضحى} ذلك اليوم. وإنما واعدهم ذلك اليوم ليكون علو كلمة الله وزهوق الباطل على رؤوس الأشهاد ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حيى عن بينة، وليشيع أمره العجيب في الأقطار والأعصار والأطراف والأكناف، ففي ذلك تقوية دين الحق وتكثير راغبيه وقلة شوكة المخالف وتوهين عزائمهم {فتولى فرعون} انصرف إلى مقام تهيئة الأسباب المعارضة فإن صاحب السحر يحتاج في تدبير الحسر إلى طول الزمان ولهذا طلب الموعد وقال مقاتل: أعرض وثبت على إعراضه عن الحق {فجمع كيده} أي أسباب الكيد وأدوات الحيلة والتمويه من مهرة السحر وغير ذلك {ثم أتى} الموعد. عن ابن عباس: كانوا اثنين وسبعين ساحرًا مع كل واحد منهم حبل وعصا. وقيل: أربعمائة. وقيل: أكثر من ذلك فضرب لفرعون قبة طولها سبعون ذراعًا فجلس فيها ينظر إليهم فبين الله تعالى أن موسى قدم قبل كل شيء الوعيد والتحذير على عادة الصالحين من أهل النصح والإشفاق، ولاسيما الأنبياء المبعوثين رحمة للأمم {ويلكم} نصب على المصدر الذي لا فعل له أو على النداء {لا تفتروا على الله كذبًا} بأن تدعوا آياته ومعجزاته سحرًا {فيسحتكم} السحت لغة أهل الحجاز والإسحات لغة أهل نجد وبني تميم، ومعناه الاستئصال.